رحالة رقميون حيث العالم مكان عملهم
شاهدت قبل أيام وثائقي على اليوتيوب على قناة
وثائقية دي دبليو الألمانية ، عن فئة من البشر الذين يعملون عبر الانترنت و
يتجولون في العالم ، لا مكان عمل يحصرهم و لا ساعات عمل محددة تفرض عليهم ..
شدني العنوان لأنني مؤخرا بدأت في التفكير في
الأمر ، لماذا على الانسان أن يحجز نفسه في مكان بينما بإمكانه العمل عن بعد ، من
أي مكان يبتغيه ، لماذا علينا ان نضع حواجز لأنفسنا و نوهم أنفسنا ان هاته هي
الحياة التي علينا ان نعيشها بينما بإمكاننا دائما أن نختار .
ان عالم اليوم تقولب في طقوس عمل محددة ، حيث
صار الجميع عليه ان يستيقظ صباحا ، يتجه للعمل ، ثم يعود كالزومبي مساء الى بيته ،
لا يفعل شيء ذو فائدة عدى ان يشاهد الاخبار او بعض الأفلام و ينام .. و يتوهم
الجميع ان هذا هو الإنجاز ، قمة الإنجاز في الحصول على الوظيفة الذي يصير لها عبدا
، يجني منها مالا لا يستمتع حتى به لأن كل وقته يضيع في تلك الوظيفة .
اعرف تماما هذا الشعور ، لأني عشته بشكل حرفي
منذ شهرين منذ بدأت تربص السنة الأخيرة لي في المشفى ، كنت استيقظ صباحا ، ارتدي
ملابسي في عجالة ، لا استمتع ابدا بإفطاري ، ثم اغادر ارمي بنفسي في حافلة نقل
الطلبة ، و في كثير من الأحيان لا اجدها ، خاصة في العطل و أيام اخر الأسبوع ،
ابدأ صباحي بالبحث عن وسيلة نقل ، اصل الى نقطة تبعد العيادة او الكلينيك الذي
اعمل فيه ب 15 دقيقة مشيا ، اسيرها مهرولة لأصلها في 10 دقائق او أقل ، اصعد سلالم
العيادة مسرعة لأصل الى الطابق الرابع اين تكون غرف المرضى ، غرفة تبديل ملابسنا
نحن الأطباء المتربصين ، أرتدي مئزري الأبيض بسرعة ، انزل الطوابق الثلاثة لأصل
الى قاعة الاجتماع الصباحي ، نكمل الاجتماع أتوجه مرة أخرى الطابق الرابع ، تبدأ
عملية ملئ الأوراق ، دخول و خروج المرضى ، طلب الكشوفات اللازمة لكل مريض ، أخذ
البعض للحصول على كشوفات خارج العيادة ، زحمة السير تجعلك تتمنى لو تستطيع حمل
المريض على ظهرك و السير به بين المارة .. ولا تختلف الأيام كثيرا ، عدا ان هناك
أيام أدخل فيها غرفة العمليات منذ الصباح حتى المساء ، او أكون في مكتب الكشوفات
أيضا بذات الحجم الساعي و بذات المهام تقريبا ..
اعود مساء جائعة ، متعبة ، مرهقة لا أريد
الحديث مع أحد ، و ادعوا الله ألا يبادرني أحدا بأي حديث ، ادخل غرفتي في أحيان
كثيرة تكون شهيتي قد غادرتني ، اتمدد في سريري بعد تغيير ملابسي و تأدية صلواتي
دفعة واحدة ، لا اقوى حينها على فعل شيء .. انتظر الظلام ان يحل ، لأنام و ارتاح
من سوء اليوم .. و يتكرر اليوم ، و يزداد الأمر سوء و حنقة من أسبوع الى آخر ، حتى
مرت أيام خالية من أي انجاز ، عدى انني اعمل ككاتب عام للعيادة وليس حتى كطبيب ،
تتسول معلومة فتجد الرد ليس هناك وقت فيما بعد أخبرك الإجابة عن سؤالك .. و تعود
كل مرة خالي الوفاض .
حسنا ، حياة من هذا النوع لم تكن أبدا من
طموحاتي ، خالية من أي متعة ، إنجاز او تطور .. كنت اقضي من 5 الى 7 ساعات في
العيادة بشكل يومي ، و دعني اذكركم اننا لا نتقاضى مليما واحدا خلال هاته السنة من
تربصنا ، هكذا هو قانون الجزائر ، فيتم معاملتنا تماما كالخدم العبيد لا أكثر و لا
أقل .
حياة لا معنى لها ، قبل أيام بدأت افكر لماذا
علي ان انتهج هذا النوع من الاعمال ، ممل و مليء بالإرهاق النفسي .. حينها ظهر
امامي هذا الوثائقي و الذي شاهدته بشغف ، عرفنا الوثائقي لبعض الناس الذي فضلوا
العمل عبر النت ، كمسوقين و مبرمجين ، يقدمون خدماتهم عبر الانترنت بينما يتجولون
و يعيشون حياة الترحال .
لماذا لا يعيش الواحد كهؤلاء ، و يتحكم في
حياته بالطريقة التي يريدها ، و لا يتحكم في ساعات يومه مشرف بائس .
العمل عبر النت ، يتطلب مهارات محددة يمكن
لأي احد تعلمها ، تعلم البرمجة ، التصميم ، التسويق ..و غيرها .. و ينطلق بعدها في
بيع خدماته .. ليس الامر سهلا لكنها طريقة تستحق التجربة ..
و على الرغم من ان السفر و الترحال متعة ما
بعدها متعة ، و لكنها ليس أسلوب حياة ابدي ، يعيش في الانسان و يبقى فيه دائما ،
لكن يمكن تجربته لفترة من الزمن ، يرى فيها العالم الذي يريد ، يتعلم من الحياة و
يحقق جزء مما تشتهيه النفس .. لم يغفل الوثائقي عن هذا الامر و أوضح أسلوب الرحالة الرقميون بشكل موضوعي ..
فالانسان في آخر المطاف ، يحب ان يكون لديه
البيت ، مكان دافئ يعود اليه عندما تتكالب عليه الحياة ، فيتحلزن في بطانيته ليوم
كامل و هو مرتاح .. و لكن ان تسقط على كاهلك وجوب الحضور الى العمل و مواجهة مشرف
حقير ، زملاء عمل بائسين ، فهنا تكمن متعة العمل عن بعد ..
اترك بين يديكم الوثائقي ، و سأعود للحديث
عنه في وقت لاحق ، لأنه قد تأخر الوقت الليلة و غدا ينتظرني يوم بائس آخر في
العيادة !